لهذا السبب إيران متمسكة بالاتفاق النووي مع أوروبا رغم انسحاب أميركا رادار
لماذا إيران متمسكة بالاتفاق النووي مع أوروبا رغم انسحاب أميركا؟
الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني، المعروف رسمياً باسم خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، في عام 2018، مثّل نقطة تحول حاسمة في مسار العلاقات الدولية والأمن الإقليمي. هذا القرار، الذي اتخذه الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب، أثار تساؤلات عميقة حول مستقبل الاتفاق وقدرته على البقاء، خاصةً مع إعادة فرض العقوبات الأمريكية المشددة على إيران. ورغم هذه التحديات الجسيمة، تظل إيران متمسكة بالاتفاق النووي، وإن كان ذلك بشروط وقيود متزايدة، وخاصةً مع الأطراف الأوروبية الموقعة عليه. هذا التمسك يثير بدوره تساؤلات حول الأسباب الكامنة وراء هذا الموقف الإيراني، في ظل الضغوط الهائلة التي تمارسها واشنطن. هذا المقال يسعى إلى تحليل هذه الأسباب، مع الأخذ في الاعتبار الديناميكيات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية المعقدة التي تحكم هذا الملف.
الأهمية الاستراتيجية للاتفاق النووي من وجهة نظر إيران
منذ البداية، نظرت إيران إلى الاتفاق النووي كأداة لتحقيق أهداف استراتيجية متعددة. أولاً وقبل كل شيء، كان الاتفاق يمثل اعترافاً دولياً بحق إيران في برنامج نووي سلمي. هذا الاعتراف كان له أهمية رمزية وسياسية كبيرة، حيث أنهى سنوات من العزلة والاتهامات التي طالت البرنامج النووي الإيراني. ثانياً، كان الاتفاق يهدف إلى رفع العقوبات الاقتصادية التي كانت مفروضة على إيران، مما يسمح لها بالاندماج في الاقتصاد العالمي والاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة التي تمتلكها. هذا الجانب الاقتصادي كان محورياً بالنسبة لإيران، حيث كانت تأمل في تحسين مستوى معيشة مواطنيها وتعزيز الاستقرار الداخلي.
ثالثاً، كان الاتفاق يمثل فرصة لإيران لتحسين علاقاتها مع المجتمع الدولي، وخاصةً مع الدول الأوروبية. كانت طهران تأمل في أن يؤدي التعاون في المجال النووي إلى تعزيز الثقة المتبادلة وتوسيع نطاق التعاون في مجالات أخرى، مثل التجارة والاستثمار. رابعاً، كان الاتفاق بمثابة حاجز أمام أي محاولات أمريكية أو إسرائيلية لشن هجوم عسكري على المنشآت النووية الإيرانية. من خلال الالتزام ببنود الاتفاق، كانت إيران تأمل في نزع فتيل التوتر وخلق بيئة أكثر استقراراً في المنطقة.
الأبعاد الاقتصادية للتمسك بالاتفاق النووي
على الرغم من أن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي أعاد فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، إلا أن طهران لا تزال ترى في الاتفاق فرصة لتحقيق مكاسب اقتصادية. أولاً، لا تزال إيران تأمل في أن تتمكن الدول الأوروبية من إيجاد آليات للتغلب على العقوبات الأمريكية واستئناف التجارة والاستثمار مع إيران. على سبيل المثال، حاولت الدول الأوروبية إنشاء آلية مالية خاصة، مثل إنستكس، لتسهيل التجارة مع إيران دون الاعتماد على النظام المالي الأمريكي. وعلى الرغم من أن هذه الآلية لم تحقق النجاح المأمول، إلا أنها لا تزال تمثل بادرة أمل لإيران.
ثانياً، تعتقد إيران أن التمسك بالاتفاق النووي يمنحها مصداقية دولية، مما قد يجذب الاستثمارات الأجنبية في المستقبل، في حال رفع العقوبات أو تخفيفها. ثالثاً، ترى إيران في الاتفاق فرصة لتنويع علاقاتها الاقتصادية وتقليل اعتمادها على النفط. من خلال التعاون مع الدول الأوروبية في مجالات أخرى، مثل الطاقة المتجددة والتكنولوجيا، تأمل إيران في بناء اقتصاد أكثر تنوعاً واستدامة.
الدور الأوروبي وأهميته لإيران
بعد الانسحاب الأمريكي، أبدت الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق النووي، وهي فرنسا وألمانيا وبريطانيا، التزامها بالحفاظ على الاتفاق. هذا الموقف الأوروبي كان له أهمية كبيرة بالنسبة لإيران. أولاً، يمثل الدعم الأوروبي للاتفاق رسالة واضحة إلى الولايات المتحدة بأن المجتمع الدولي لا يؤيد سياسة الضغط الأقصى التي تمارسها واشنطن على إيران. ثانياً، يمنح الدعم الأوروبي إيران غطاءً سياسياً وقانونياً يسمح لها بالدفاع عن موقفها في المحافل الدولية.
ثالثاً، تمثل الدول الأوروبية شريكاً تجارياً مهماً لإيران. على الرغم من أن العقوبات الأمريكية تعيق التجارة بين إيران وأوروبا، إلا أن الدول الأوروبية لا تزال تبحث عن طرق للحفاظ على العلاقات التجارية مع إيران. رابعاً، تلعب الدول الأوروبية دوراً مهماً في الوساطة بين إيران والولايات المتحدة. تحاول الدول الأوروبية إيجاد حلول دبلوماسية للأزمة النووية الإيرانية، وقد تكون قادرة على لعب دور الوسيط بين الطرفين في المستقبل.
الرسائل السياسية والاستراتيجية للتمسك بالاتفاق
إلى جانب الأبعاد الاقتصادية، يحمل التمسك الإيراني بالاتفاق النووي رسائل سياسية واستراتيجية مهمة. أولاً، تبعث إيران برسالة مفادها أنها ملتزمة بالقانون الدولي والاتفاقيات الدولية. هذا الالتزام يعزز مكانة إيران في المجتمع الدولي ويجعلها شريكاً أكثر موثوقية للدول الأخرى. ثانياً، تبعث إيران برسالة مفادها أنها لن تخضع للضغوط الأمريكية وأنها قادرة على الصمود في وجه العقوبات. هذا الموقف يعزز الروح المعنوية للشعب الإيراني ويقوي النظام السياسي في طهران.
ثالثاً، تبعث إيران برسالة مفادها أنها لا تسعى إلى امتلاك أسلحة نووية وأن برنامجها النووي سلمي تماماً. من خلال الالتزام ببنود الاتفاق، تحاول إيران نزع فتيل التوتر في المنطقة وتهدئة المخاوف الدولية بشأن برنامجها النووي. رابعاً، تبعث إيران برسالة مفادها أنها مستعدة للتفاوض مع الولايات المتحدة، ولكن بشروط عادلة ومتوازنة. من خلال التمسك بالاتفاق، تحاول إيران إبقاء الباب مفتوحاً أمام الحوار مع واشنطن، ولكنها ترفض التفاوض تحت الضغط.
التحديات التي تواجه التمسك الإيراني بالاتفاق
على الرغم من الأسباب المذكورة أعلاه، يواجه التمسك الإيراني بالاتفاق النووي تحديات كبيرة. أولاً، تزايد الضغوط الاقتصادية بسبب العقوبات الأمريكية. هذه الضغوط تؤثر على حياة المواطنين الإيرانيين وتزيد من الاستياء الشعبي. ثانياً، عدم قدرة الدول الأوروبية على توفير بديل فعال للعقوبات الأمريكية. هذا الأمر يقلل من الفوائد الاقتصادية للاتفاق ويزيد من الإحباط الإيراني.
ثالثاً، التوترات الإقليمية المتزايدة بين إيران والولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. هذه التوترات تزيد من خطر نشوب صراع عسكري وتهدد الاستقرار الإقليمي. رابعاً، المعارضة الداخلية في إيران للاتفاق النووي. هناك قوى سياسية في إيران تعتقد أن الاتفاق كان تنازلاً كبيراً وأن إيران لم تحصل على ما يكفي في المقابل.
مستقبل الاتفاق النووي
مستقبل الاتفاق النووي لا يزال غير واضح. هناك عدة سيناريوهات محتملة. أولاً، قد تعود الولايات المتحدة إلى الاتفاق في ظل إدارة جديدة. هذا السيناريو قد يتطلب مفاوضات جديدة بين إيران والولايات المتحدة والدول الأخرى الموقعة على الاتفاق. ثانياً، قد تحاول إيران والدول الأوروبية الحفاظ على الاتفاق دون مشاركة الولايات المتحدة. هذا السيناريو قد يتطلب جهوداً دبلوماسية واقتصادية كبيرة من جانب الدول الأوروبية.
ثالثاً، قد تنهار الاتفاقية تماماً وتعود إيران إلى برنامجها النووي السابق. هذا السيناريو قد يؤدي إلى تصعيد التوتر في المنطقة وزيادة خطر نشوب صراع عسكري. رابعاً، قد يتم التوصل إلى اتفاق جديد بين إيران والولايات المتحدة والدول الأخرى الموقعة على الاتفاق. هذا السيناريو قد يتطلب تنازلات من جميع الأطراف وقد يستغرق وقتاً طويلاً.
الخلاصة
في الختام، يمثل تمسك إيران بالاتفاق النووي، رغم انسحاب أمريكا وإعادة فرض العقوبات، قراراً استراتيجياً معقداً يحركه مزيج من العوامل السياسية والاقتصادية والاستراتيجية. إيران ترى في الاتفاق فرصة للحفاظ على مكانتها في المجتمع الدولي، وتحقيق مكاسب اقتصادية، وتجنب الصراع العسكري. ومع ذلك، فإن التحديات التي تواجه الاتفاق كبيرة، ومستقبله لا يزال غير مؤكد. من الضروري أن تتخذ جميع الأطراف المعنية خطوات لتهدئة التوتر وإيجاد حلول دبلوماسية للأزمة النووية الإيرانية، من أجل الحفاظ على الاستقرار الإقليمي والدولي.
مقالات مرتبطة
Youtube
مدة القراءة